الثلاثاء، 3 ديسمبر 2013

الإنسان وليد البيئة




الإنسان وليد البيئة
من القواعد التي أرسى أسسها علم الاجتماع أن الإنسان أبن بيئته ويتأثر بعوامل البيئة كما يتأثر بعوامل الزمن ومستحقاته الحتمية والضرورية, وكذلك فإن الإنسان في تعامله مع الموضوعات الخارجية كثير ما يتأثر بالعلائق الأجتماعية سواء أكان منشأها روحي أو معرفي طالما أن تلك العلائق تفسر له الوجود, وليس من السهل التخلي عنها لصالح علائق ناشئة ومستوردة من خارج البيئة ومن طرف يتوجس أصلا منه لتراث سابق مصبوغ بالدم ومن حواجز تأريخية نشأت من حالة عدم التواصل الإيجابي وخاصة فيما يتعلق بحروب الشرق والغرب المستمرة من زمن سومر وبابل, والصراع الديني والاثني والعنصري بين البيئتين المتنافستين وجوديا على البقاء والاستمرار .
وهذا الاستدلال نجد له مكانة تأكيدية أيضا في علم النفس والسلوكيات عندما يستشعر الفرد من مخاوف تبررها عوامل تأريخية سرعان ما يتخذ طابعا دفاعيا صارما أو تشكيل سلسلة من الانهيارات النفسية المفاجئة والتي تطيح بالأنا وتسلبها الخاصية وخاصة فيما يسمى بعقدة هلسنكي التي أثبتت كثيرا من التجارب واقعيتها وحدوثها المجسد, لذا فإننا نجد كلا الطرحين قد حضر فاعلا في البيئة العراقية بين ردة الفعل المناقضة للتغيير وبين الانهيار السلبي والذوبان اللا واعي في اتون حركته.
الشعب العراقي الحالي والذي يعتبره البعض نتيجة حضارات متتالية أبرزها السومرية بأصولها الشرقية التي امتهنت الزراعة ابتدأت مجتمعات مستقرة لا مجتمعات بدوية كما يظن البعض لأن الزراعة- أساس بناء المجتمع السياسي المنظم والتمدن والحضارة- بدأت تاريخياً شمال البلاد (جرمو 7000 ق.م) ولم تصل إلى أوربا إلا بعد 3500 سنة، في حين عُرفت الأقوام الجبلية في الشرق بحياتهم الهمجية من هضبة عيلام وامتدادا للصحراء الفارسية الكبرى وصولا لأواسط أسيا وهضابها، وأطلق السومريون عليهم "ثعابين الجبال". بينما وَصفوا الأقوام الجزرية: أنهم بدو الصحراء لا يعرفون الزراعة والحضارة.. أما السومريون فكانوا على خلاف هذه الأقوام شعباً متحضراً شديد التعلق بِأرضه الطيبة (السهل الرسوبي)، يتحسبون دائماً للبدو الأجلاف في المناطق الغربية الذين دأبوا على مهاجمة قوافلهم ومدنهم وقراهم "إن النزاع التقليدي لمجتمع السهل الرسوبي والقبائل البدوية تملأ فصولاً طويلةً من تاريخ العراق القديم, بمعنى أن أهل بلاد الرافدين كانوا الأكثر تحضرا وتأهيلاً لبناء ومواصلة الطريق الحضاري.
البيئة التي تتكون منها غالبية العراق القديم قبل حلول التصحر بفعل عوامل التصحر كانت بيئة مناسبة لبناء حضارة إنسان قادر على إنشاء مدنية مميزة ذات أبعاد مدنية كانت مح أطماع أقوام محيطة بها غالبية طباعهم مناقضة لطبائع الشعب العراقي القديم ومحل استقرار للفارين منها أو الذين تغريهم طبيعة الحية المستقرة الغنية بعوامل البقاء والاستمرارية .
تراوح عدد المدن السومرية في حدود خمس عشرة مدينة مستقلة، منها اريدو، اور ، لارسا ، اوروك (الوركاء- شمال غرب لارسا)، لكش، اوما ،شروباك ،ايسن ،ادب , نيبور (نفر- شمال غرب ادب- شرق الديوانية)، اكشاك ،كيش ,هذا الكم من الدويلات التي ساهمت في صنع حضارة وادي الرافدين لا يمكن أن تترك بصماتها خارج حدود شخصية الإنسان الذي شيدها وعاش فيها رياديا في كل شيء.
هذا الثراء الحضاري كان مبنيا بوحدته الحضارية على تنوع عرقي سياسي ولغوي أكثر من صفة الوحدة فقد اتصفت الحضارة السومرية منذ بدابة نشأتها بثلاث سمات رئيسة التعددية اللغوية- العرقية، التعددية السياسية (دول المدن)، الصراعات الناتجة عن هذا التنوع. فمنذ بدء هذه الحضارة في مطلع الألف الثالث ق.م تميزت بإزدواجية اللغة. وباستثناء (الفراتيين الأوائل) الذين لم تُعرف لغتهم بعد، كانت اللغتان الرئيستان في التدوين والكتابة اللغة السومرية واللغة الأكادية التي ما زال البعض من العراقيين يستخدمها بشكلها المتطور.
هذه الأصالة الحضارية لا يمكنها أن تنهزم أمام المد البدوي الخالي من العمق التأريخي الفاقد من عمقه الروحي والوجداني مع لحاظ أن المد البدوي كان دائما سريع الذوبان في المحيط الذي يستوعبه وخاصة في المجال الروحي لينتمي له ويتدين بعقيدته والتاريخ لم يطرح نموذج فعال غلبت فيه البداوة بشقها الروحي والعقيدي على البيئة التي يغزوها ,وحتى غزوات المغول (هولاكو وجنكيز خان) ذابت دينيا في الإسلام عندما بسطت نفوذها على المجتمعات الإسلامية ,وحتى في أوربا عندما غزا البرابرة الجرمان مجتمعات أوربا القديمة سرعان ما تخلت عن ديانتها لصالح ديانة المجتمعات التي وقع عليها الغزو وذابت تدريجيا فيها.
لقد ألت الأوضاع في العراق القديم في النهاية إلى إنشاء الدولة الوطنية التي ضمت حدود ما يعرف بالعراق الحديث تقريبا على الملك زاكيري تباعاً بل وكما جاء في نصوصه المدونة، بسط فتوحاته من البحر الأسفل (الخليج العربي) إلى البحر الأعلى (البحر المتوسط). دام حكه 25 سنة، حسب قائمة الملوك السومرية، ونجح في توحيد البلاد وإنشاء أول إمبراطورية شملت أجزاء من الشرق. شكلت نهاية لوكال زاكيري، بداية العصر الأكدى وانتقال السلطة السياسية إلى الاكديين الجزريين وظهور الدولة الوطنية الموحدة التي اتسعت بالفتوحات الخارجية إلى إمبراطورية بزعامة سرجون الأكدى.
لا تخلو العصور المتقلبة التي مرت على العراق من نتائج ذات أهمية قصوى في تثبيت ملامح الشخصية العراقية الوطنية متأثرة أكثر شيء بما نزل من أدين إبراهيمية بدأ من خروج النبي إبراهيم من وسط جنوب العراق متجها للغرب بلاد العبرانيين أبناء عم العراقيين حيث كانت ولادة الأسرة الإبراهيمية المختارة التي قادت التحولات الدينية العميقة والجذرية من التعددية إلى التوحيد مرورا أولا بالديانة الموسوية وتفرعها الرئيسي المسيحية الشرقية ثم الإسلام المحمدي.
لم يكن المجتمع العراقي في حال المتلقي السلبي بل كان فاعل إيجابي في هذه صنع هذه التحولات مع احتفاظه بشخصية حافظت على ريادتها الحضارية وقيمها المدني, فلا يمكن لمجتمع مثله صنع الحضارة بمساهمة جادة أن يخلي موقعه تحت تأثير الهمجية والبساطة والخواء الحضاري لأقوام لم يتعلموا المدنية ولم يمارسوا الفعل المدني الأقوى بعطاءه والقادر على ابتكار وسائل المواجهة والحفاظ على تماسكه الطبيعي الذي يحفظ له شخصيته التأريخية, لكن ليس بدون ثمن ولا من أثار جانبية قد تشوه بعض خصائص هذه الشخصية.
أقول جازما أن البيئة العراقية المثالية هي التي حفظت الحضارة وأوصلتها من خلال الإنسان العراقي شديد التمسك بها إلى العالم الخارجي وهو يخوض معركة البقاء في مواجهة موجات عنيفة كان الغالب عليها طابع القوة الغاشمة والخالية من روح التسامح التي تنتجها المدنية, هذه الموجات لم تكن مصدرها الصحراء العربية ممثلة بالبدو بل ان بعض المؤرخين والآثاريين ينفون عن المد الجزيري صفة البداوة أصلا باعتبار أن الجزيرة العربية قبل سبعة ألاف سنه لم تكن كما هي الأن وأن كثيرا من الموجات البشرية التي وصلت للعراق لم تأت من وسط الصحراء بل من حضارات مدنية أخرى اليمنية مثلا وحضارات ما حول شاطئ الخليج العربي بعد إنهيارات دراماتيكية قادها عامل بيئي ومناخي وليس عامل صراع حضاري .

ليست هناك تعليقات:

إرسال تعليق