الاثنين، 2 ديسمبر 2013

السياسة الشرعية

                                                        السياسة الشرعية


     الحمد لله رب العالمين والصلاة والسلام على أشرف المرسلين, وعلى آله وصحبه أجمعين.
وبعد: فهذه نبذة عن السياسة الشرعية, مستفادة من فضيلة الشيخ الدكتور: سعد بن مطر العتيبي, قد أضفتها في الموقع لتعم الفائدة.
أولاً : المعنى اللغوي للسياسة :
تستعمل السياسة في اللغة بمعنى : الفساد ، أو الجبلة ، أو التدبير .
والسياسة بمعنى : التدبير ؛ هي الاستعمال المقصود هنا .
ومن شواهده قول النبي_صلى الله عليه وسلم_: (( كانت بنو إسرائيل تسوسهم الأنبياء ، كلّما هلك نبيّ ، خَلَفَه نبيّ ، وإنَّه لا نبيَّ بعدي )) رواه البخاري ح (3455) ، ومسلم ح (1842) ، قال النووي أي : " يتولون أمورهم كما تفعل الأمراء والولاة بالرعية " .
وقول عمر بن الخطاب_رضي الله عنه_: ( قد علمت ورب الكعبة متى تهلك العرب ؟ إذا ساس أمرهم مَنْ لم يصحب الرسول ، ولم يعالج أمر الجاهلية ) رواه ابن سعد في : الطبقات ، ورجاله ثقات .
ومنه قول عمرو بن العاص يصف معاوية - رضي الله عنهما - : ( إني وجدته .. الحسن السياسة الحسن التدبير)  ذكره الطبري في تاريخه .
وقول هند الصغرى بنت النعمان بن المنذر المعروفة بحُرَقة :
فبينا نسوس الناس والأمر أمْرُنَـا إذا نحـن فيهم سوقـة نتنصف
 والعرب تقول : سُوِّس فلان أمْر بني فلان ، أي : كلِّف سياستهم ، وملك أمرهم .
ومن هنا يتبين أنَّه لا عبرة بما قيل من أنها كلمة غير عربية الأصل (خلاصة هذا القول : أنَّ كلمة ( سياسة ) معرب ( سه يسا ) ، فـ ( سه ) بالفارسية تعني : ثلاثة و ( يسا ) بالمغولية تعني : التراتيب ، فكأنه قال : التراتيب الثلاثة ) ؛ ولهذا وصف شهاب الدِّين الخفاجي (975-1069) - القول بأنَّها مُعَرَّبة بقوله : " وهذا غلط فاحش ؛ فإنَّها لفظة عربيَّة مُتَصَرِّفة … وعليه جميع أهل اللغة " .
والحديث في المعنى اللغوي لكلمة ( السياسة ) لا يخلو من فوائد وطرائف ولطائف ؛ لكنني حاولت الاكتفاء بما يكفي في بيان المراد .. وربما أضفت ما قد يُحتاج إليه منها عند وجود مناسبة له _إن شاء الله تعالى_ .
ثانياً : المعنى الاصطلاحي للسياسة الشرعية :
مصطلح السياسة الشرعية من المصطلحات التي لم تستعمل للدَّلالة على أمر واحد ، بل مرّ بمدلولات عدَّة ؛ نتيجة تَطّوُّر مفهومه عند الفقهاء ، تبعاً لمعاناة نقله من التطبيق العملي إلى التنظير العلمي ، التي استغرقت زمناً لا بأس به ، كما هو الشأن في العلوم التي تملي البحثَ فيها الحاجاتُ المُتجدِّدَة ، وتراخي المسائل المستجدَّة من حيث الزمن ، في القرون الماضية ، ونتيجة إطلاقه على أنواع من العلوم عند من كتبوا في غير الأحكام الفقهية ؛ فلفظ " السياسة " قد استعمل للدلالة على أكثر من  معنى .
وقد عرّف الفقهاء - المتقدمون والمتأخِّرون - السياسة الشرعية بتعريفات كثيرة منها العام ، ومنها الخاص ، وأضاف إليها عدد من الباحثين صياغات جديدة حاولوا فيها ضبط المفهوم .
وسأكتفي بإيراد تعريفين منهما :
الأول : تعريف ابن عقيل الحنبلي - رحمه الله - للسياسة الشرعية بأنَّها : " ما كان من الأفعال ، بحيث يكون الناس معه أقرب إلى الصلاح ، وأبعد عن الفساد ، وإن لم يشـرعه الرسول صلى الله عليه وسلم ، ولا نزل به وحي " .
والثاني : تعريف ابن نجيم الحنفي - رحمه الله - للسياسة الشرعية بأنَّها " فعل شيء من الحاكم ؛ لمصلحة يراها ، وإن لم يرد بذلك الفعل دليل جزئي " .
وحتى لا يُستطرد بالدخول في شروح التعريفات وبيان ما لها وما عليها ؛ فإنه يُكتفى بذكر ما خلصت إليه الدراسة الاستقرائية من تعريف للسياسة الشرعية ، وذلك من بالنظر المستفاد من واقعِ التدوين السياسي الذي ألفه حَمَلَة العلوم الشرعية ، ومن طبيعةِ المسائل التي أفردها بالتدوين فقهاء الشريعة ؛ إذْ يتضح أنَّ ثمَّة منهجين في التدوين السياسي الشرعي :
أحدهما : منهج يغلب عليه الجانب الخُلقي والاجتماعي .
وثانيهما : منهج فقهي شرعي ؛ ينير للحكّام وأولي الأمر ، أحكام التدابير ، وآلياتها ، و ضوابط شرعيتها .
ويمكن الخلوص بمدلول السياسة الشرعية من خلال استقراء مضامين المؤلفات الفقهية في السياسة الشرعية إلى  معنيين :
الأول : معنى عام ، مرادفـ لـ( الأحكام السلطانية ) ، التي هي : اسم للأحكام والتصرفات التي تدبر بها شؤون الدولة الإسلامية ، في الداخل والخارج ، وفق الشريعة الإسلامية ، سواء كان مستند ذلك نصاً خاصاً ، أو إجماعاً أو قياساً ، أو كان مستنده قاعدة شرعية عامة ؛ وعليه :
فالسياسة الشرعية بالمعنى العام : تشمل الأحكام والتصرفات التي تدبّر بها شؤون الأمة في حكومتها ، وتنظيماتها ، وقضائها ، وسلطتها التنفيذية والإدارية ، وعلاقتها بغيرها من الأمم في دار الإسلام وخارجها ، سواء كانت هذه الأحكام مما ورد به نص تفصيلي جزئي خاص ، أو مما لم يرد به نص تفصيلي جزئي خاص ، أو كان من شأنه التبدل والتغير ، تبعاً لتغير مناط الحكم في صور مستجدة.
ومعنى خاص ، مندرج في السياسة الشرعية بالمعنى العام ( الأحكام السلطانية ) ؛ واندراجه فيها ، من جهة طبيعة الأحكام ، وأصول تشريعها ؛ إذْ يلْمَحُ في إفراد مسائلها ، عدمُ ثبات الحكم ، تبعا لاختلاف مناطه.
فالسياسة الشرعية بالمعنى الخاص هي :
( كل ما صدر عن أولي الأمر، من أحكام وإجراءات ، منوطة بالمصلحة ، فيما لم يرد بشأنه دليل خاصّ ، متعيّن ، دون مخالفة للشريعة ) .
وهذا تعريف يحتاج إلى شرح ، وبيان لمحترزاته ، وذلك على النحو التالي :
- قوله : ( ما صدر عن أولي الأمر ) : تعريف للسياسة الشرعية ببيان جهة الاختصاص بالنظر في مسائلها ، والحكم بها ؛ وهم ( أولو الأمر ) : العلماء والأمراء ؛ قال العلامة ابن القيم رحمه الله : "… والتحقيق أنَّ الأمراء إنَّما يُطاعون إذا أمروا بمقتضى العلم ؛ فطاعتهم تبع لطاعة العلماء ؛ فإنّ الطاعـة إنما تكون في المعـروف وما أوجبه العلم ؛ فكما أنّ طاعة العلمـاء تبع لطاعـة الرسول ، فطاعة الأمراء تبع لطاعة العلماء " ؛ فذكْرُهم هنا لبيان جانب السلطة في السياسة الشرعية ، وعلى فرض بلوغ الأمير درجة الاجتهاد تبقى السياسة في جانب الشورى وما يتفرع عنها من أحكام .
وعليه ؛ فالسياسة الشرعية ليست محصورة فيما يصدر من حاكم ، بل تشمل بعض فتاوى المفتين من غير أهل الولاية المنصوبين ، فإنها قد تكون من باب السياسة الشرعية ، كما أشار إلى ذلك بعض العلماء ، ومن ذلك قول عبد الواحد بن الحسين الصيمري رحمه الله (ت/386) : " إذا رأى المفتي المصلحة أن يفتي العامي بما فيه تغليظ ، وهو مما لا يعتقد ظاهره ، وله فيه تأويل ، جاز ذلك زجراً له " ( ذكره النووي في مقدمة المجموع ) ، وهذا من لبّ السياسة بمعناها الخاص كما سيأتي إن شاء الله تعالى .
- وقوله : ( من أحكام وإجراءات ) تعريف للسياسة ببيان شمولها لناحيتين : نظرية ، وتطبيقية .
فالأولى : ما يلزم سياسةً من فِعْلٍ أو تَرْكٍ ، سواء كانت في شكل أنظمة وقوانين ، أو فتوى ، أو غيرها ؛ وهي المعبّر عنها بالـ     ( الأحكام ) .
والثانية : ما كان محل فعل وتنفيذ ، وحركة وتدبير ؛ وهي المعبّر عنها بـ (الإجراءات) أو الآليات .
- وقوله : ( منوطة بالمصلحة ) ، بيان لارتباط السياسة الشرعية بمراعاة المصلحة ، على اختلاف مستنداتها شرعاً ؛ وأنَّ مجالها : الأحكام المُعَلَّلَة ، ومن ثمَّ فلا بد أن تصدر عن اجتهاد شرعي ؛ وعليه ، فهو قيد يخرج به ما يلي :
1) أحكام العبادات والمُقَدَّرات ومن باب أولى مسائل الاعتقاد ؛ فليست مجالاً للسياسة الشرعية ، من حيث هي .
2) الأحكام والإجراءات الصادرة عن جهل وهوى ؛ فليست من أحكام السياسة الشرعية ، لكنها لو وافقت أحكام السياسة الشرعية ، جازت نسبتها إليها ، مع إثم مصدرهـا ؛ لتصرفه عن جهـل وهوى . ( ينظر : مجموع فتاوى ابن تيمية : 29/43 وما بعدها ) .
- وقوله : ( فيما لم يرد بشأنه دليل خاص مُتَعَيِّن ) ، قيد يُخرج الأحكام التي ورد بشأنها دليل خاص مُتَعَيِّن ؛ فكلمة ( دليل ) تشمل النص ، والإجماع ، والقياس ؛ فالدليل هنا يقابل ( الاستدلال بطرائق الاستنباط أو ما يعرف بالأدلة المختلف فيها ) .
وكلمة ( خـاص ) أي : بحكم المسألة محلَّ النظر ؛ بأن يثبت في حكمها دليل جزئي تفصيلي ؛ فما كان شأنه كذلك ، فليس من مسائل السياسة الشرعية .
وكلمة ( مُتَعَيِّن ) تُخرج المسائل الثابتة اللازمة ، التي لا تتغير أحكامها بحال ؛ إذ إنَّها مُتَعَيِّنة الحكم ، ليس أمام أولي الأمر سوى تنفيذها . كما يدخل بهذه نوعان من المسائل هما :
1) المسائل التي ثبت في حكمها أكثر من وجه ، لوجود دليل خاص لكل وجه ؛ بحيث يُخَيَّر أولوا الأمر بينها ، تبعاً للأصلح ؛ كالقتل والمنّ والفداء ، في مسألة الأسرى .
2) المسائل التي ورد في حكمها دليل خاص ، لكنَّ مناط الحكم فيها قد يتغيَّر ، ومن ثم تتغيّر الأحكام تبعاً لذلك ؛ كالمسألة التي يجيء حكمها موافقاً لعرف موجود وقت تَنَزّل التَّشريع ، أو مرتبطاً بمصلحة مُعَيَّنة ؛ فيتغيّر العرف ، أو تنتفي المصلحة ؛ ومن ثم يتغيّر الحكم تبعاً لذلك ، لا تغيُّراً في أصل التشريع .
- وقوله : ( دون مخالفة للشريعة ) قيد مهم ، يُخرج جميع أنواع السياسات المنافية للشريعة ؛ فليست من السياسة الشرعية في شيء .
وعُبِّرَ بنفي المخالفة ؛ لأنَّه المعنى الصحيح لموافقة الشريعة ؛ فإنَّ ما جاءت به الشريعة ، وما ثبت عدم مخالفته لها ، هو في الحقيقة موافق لها : الأول من جهة النصوص ، والثاني من جهة القواعد والأصول ؛ فعدم مناقضة روح التشريع العامَّة والمقاصد الأساسية ، والأصول الكليَّة - ولو لم يرد بها نص خاص بعينه - هو ضابط السياسة الشرعية ، الذي يميزها عن غيرها من السياسات .
بهذا تمَّ الحديث عن المعنى الاصطلاحي للسياسة الشرعية ، الذي دعت إلى إيضاحه وبيانه ، نظرة الاشتباه تجاهه ، حتى لدى بعض من لهم إليه انتماء ، فضلاً عن عامَّة طلاب العلم الشرعي ، بَلْه دارسي القوانين الوضعية ، ممن قلَّت بضاعتهم في علوم الشريعة الأساسية .
ويليه - إن شاء الله تعالى – الحديث عن حجية العمل بالسياسة الشرعية .                                               


 حجية العمل بالسياسة الشرعية
من خلال ما سبق في بيان مدلولي السياسة الشرعية ، يتضح أنَّ أحكامها تقوم على الأدلة الشرعية النصيّة والاجتهادية والأصول الاستنباطية ؛ ولذلك فإنَّ من أهم أدلتها أدلّة أصولها ؛ إذ هي في حقيقة الأمر تنظيرٌ من تلك الأدلَّة تُرَاعَى فيه مقاصد الشريعة ، وتطبيقٌ تُرَاعَى فيه الظروف والأحوال والأعراف ؛ يتأكَّد ذلك بالنظر فيما ساقه العلماء من أدلَّة السياسة الشرعية بمدلولها الخاص وهو الذي سيركّز عليه في هذه الحلقات بشكل أظهر إن شاء الله تعالى ، وهي أدلَّة كثيرة جدّاً ؛ ويمكن إجمال ما استُدِل به في مناهج على النحو الآتي :
النهج الأول : الاستدلال بشواهد السياسة الشرعيَّة من القرآن العظيم ، والسنَّة النبويَّة ، وسنَّة الخلفاء الراشدين ، وما جرى عليه عمل العلماء من أهل الفقه والدِّين ؛ وهذه من الكثرة بمكان ؛ لذا يكتفى بذكر بعضها :
فمن شواهد السياسة الشرعية من القرآن العظيم :
1- ما حكى الله تعالى في سورة الكهف ، من أعمال الخضر التي اعترض عليه بسببها موسى - عليهما الصلاة والسلام - لِمَا ظهر له من مخالفتها للشرع ؛ فلما نبَّأه بتأويلها وبين له ما قصده فيها من السياسة المبنيّة على المصلحة سلَّم له .
قال أبو العباس ابن تيمية رحمه الله : " … قصة الخضر مع موسى لم تكن مخالفة لشرع الله وأمره ، … بل ما فعله الخضر هو مأمور به في الشرع بشرط أن يعلم من مصلحته ما علمه الخضر ؛ فإنَّه لم يفعل محرما مطلقا ، ولكن خرق السفينة وقتل الغلام وأقام الجدار ؛ فان إتلاف بعض المال لصلاح أكثره هو أمر مشروع دائما ، وكذلك قتل الإنسان الصائل لحفظ دين غيره أمر مشروع … فهذه القضية تدل على أنَّه يكون من الأمور ما ظاهره فساد ؛ فيحرِّمه من لم يعرف الحكمة التي لأجلها فعل ، وهو مباح في الشرع باطناً وظاهراً لمن علم ما فيه من الحكمة التي توجب حسنه وإباحته "([4])
2- قول الله عز وجل في سورة يوسف : { وَشَهِدَ شَاهِدٌ مِّنْ أَهْلِهَا إِن كَانَ قَمِيصُهُ قُدَّ مِن قُبُلٍ فَصَدَقَتْ وَهُوَ مِنَ الكَاذِبِينَ (26) وَإِنْ كَانَ قَمِيصُهُ قُدَّ مِن دُبُرٍ فَكَذَبَتْ وَهُوَ مِن الصَّادِقِينَ (27) فَلَمَّا رَأَى قَمِيصَهُ قُدَّ مِن دُبُرٍ قَالَ إِنَّهُ مِن كَيْدِكُنَّ إِنَّ كَيْدَكُنَّ عَظِيمٌ } ؛ ففي هذه الآيات دلالة على صحة الاعتبار بالقرائن ، ودلالة الحال ، في القضايا السياسية الاستنباطية ؛ حيث ذكر الله عز وجل شهادة هذا الشاهد ، أي الشخص الذي شهد ليوسف صلى الله عليه وسلم بذكره شاهد الحال ، الذي هو قدّ القميص من دبر ؛ لأنَّ فيه تقديرا : شهد شاهد فقال أو ضمنت الشهادة معنى القول ؛ وذلك أنَّ العادة جرت في القميص أنَّه إذا جذب من جهة ( الخلف مثلاً ) تمزق من تلك الجهة ، ولا يجذب القميص من خلف لابسه إلا إذا كان مدبراً ؛ فكون القميص مشقوقاً من هذه الجهة دليل واضح على أنّه هارب عنها ، وهي تنوشه من خلفه ، ولم ينكر عليه ولم يَعِبْه ؛ بل حكى ذلك مقرِّراً له .
3- قــول الله عز وجل في سورة الأنبياء : { وَ دَاوُودَ وَسُلَيْمَانَ إِذْ يَحْكُمَانِ فِي الْحَرْثِ إِذْ نَفَشَتْ فِيهِ غَنَمُ الْقَوْمِ وَكُنَّا لِحُكْمِهِمْ شَاهِدِينَ (78) فَفَهَّمْنَاهَا سُلَيْمَانَ وَكُلّاً آتَيْنَا حُكْماً وَعِلْماً وَسَخَّرْنَا مَعَ دَاوُودَ الْجِبَالَ يُسَبِّحْنَ وَالطَّيْرَ وَكُنَّا فَاعِلِينَ (79) } ؛ فهـذان الحكمان صحيحان في الظاهر ؛ غير أنَّ الله تعالى أثنـى على الحكم المبني على السياسة الشرعية ، والفائدة الزائدة ؛ حيث قال الله عز وجل : { فَفَهَّمْنَاهَا سُلَيْمَانَ } .
4- قول الله سبحانه وتعالى في سورة التوبة : { وَعَلَى الثَّلاَثَةِ الَّذِينَ خُلِّفُواْ حَتَّى إِذَا ضَاقَتْ عَلَيْهِمُ الأَرْضُ بِمَا رَحُبَتْ وَضَاقَتْ عَلَيْهِمْ أَنفُسُهُمْ وَظَنُّواْ أَن لاَّ مَلْجَأَ مِنَ اللّهِ إِلاَّ إِلَيْهِ ثُمَّ تَابَ عَلَيْهِمْ لِيَتُوبُواْ إِنَّ اللّهَ هُوَ التَّوَّابُ الرَّحِيمُ (118) } ؛ فإنَّ عقاب الثلاثة بالهجر على تخلفهم عن الغزو مع النبي صلى الله عليه وسلم في تبوك ، ومنعهم من قربان نسائهم وهو منع من أمور مباحة لهم في الأصل ، مع الاكتفاء بقبول اعتذار غيرهم من المتخلفين ، هو من مقتضيات السياسة   الشرعية .
قال ابن العربي : " فيه دليل على أنَّ للإمام أن يُعاقب المذنب بتحريم كلامه على النَّاس أدباً له … وعلى تحريم أهله      عليه " .
           ومن شواهد السياسة الشرعية في السنَّة النبوية :
1- قول النبي صلى الله عليه وسلم لعائشة رضي الله عنها : (( لَوْلا حَدَاثَةُ عَهْدِ قَوْمِكِ بِالْكُفْرِ لَنَقَضْتُ الْكَعْبَةَ وَلَجَعَلْتُهَا عَلَى أَسَاسِ إِبْرَاهِيمَ فَإِنَّ قُرَيْشًا حِينَ بَنَتِ الْبَيْتَ اسْتَقْصَرَتْ وَلَجَعَلْتُ لَهَا خَلْفًا )) متفق عليه ؛ فتأسيس البيت على قواعد إبراهيم صلى الله عليه وسلم أمر مطلوب ، لكن تركه النبي صلى الله عليه وسلم ؛ خوفاً من مفسدة أعظم من مصلحته ؛ وهذا من أحكام السياسة الشرعية .
2- تولي خالد بن الوليد رضي الله عنه إمرة المسلمين في غزوة مؤتة في حياة النبي صلى الله عليه وسلم ، مع أنَّ النبي صلى الله عليه وسلم لم يُؤَمِّرْه فيها ، بل أثنى عليه ، مع ذكره تأمُّرَه من غير تأمير منه ، والحديث رواه البخاري ؛ وإنَّما مستند خالد بن الوليد رضي الله عنه ومن معه من الصحب الكرام : اقتضاء السياسة الشرعية المبنية على المصلحة الشرعية لذلك ؛ إذ كانت السياسة الشرعية تقتضي وجود قيادة للجيش ، وليس ثَمَّ نص يُرجع إليه .
3- وقوله صلى الله عليه وسلم : (( لَقَدْ هَمَمْتُ أَنْ آمُرَ بِالصَّلاةِ فَتُقَامَ ثُمَّ أُخَالِفَ إِلَى مَنَازِلِ قَوْمٍ لا يَشْهَدُونَ الصَّلاةَ فَأُحَرِّقَ عَلَيْهِمْ )) متفق عليه ؛ وهذا من السياسة الشرعية .
4- قوله صلى الله عليه وسلم لعمر بن الخطاب رضي الله عنه لما استأذنه في قتل عبد الله بن أبي رأس المنافقين : (( دَعْهُ لا يَتَحَدَّثُ النَّاسُ أَنَّ مُحَمَّدًا يَقْتُلُ أَصْحَابَهُ )) متفق عليه ؛ حيث مُنِعَ من قتل المنافقين في ابتداء الإسلام ؛ لأنَّ مصلحة التأليف أعظم من مصلحة القتل .
ومن شواهد السياسة الشرعية من سنَّة الخلفاء الراشدين :
1- جمع أبي بكر الصديق رضي الله عنه للمصحف رواه البخاري ؛ لمَّا كثر القتل في القراء .
2- أمر عمر رضي الله عنه بجلد شارب الخمر ثمانين جلدة ، وكان شارب الخمر يجلد في زمن النبي صلى الله عليه وسلم ، وأبي بكر رضي الله عنه ، وصدراً من خلافة عمر رضي الله عنه ، أربعين . متفق عليه ؛ فهذا من السياسة الشرعية . قال النووي - مُبَيِّناً حجة الشافعي ومن وافقه في أنَّ حدَّ الخمر أربعين ، وما زاد تعزير - : " وأمَّا زيادة عمر ، فهي تعزيرات ، والتعزير إلى رأي الإمام : إن شاء فعله وإن شاء تركه ؛ بحسب المصلحة في فعله وتركه ؛ فرآه عمر ففعله ، ولو يره النبي صلى الله عليه وسلم ولا أبو بكر ولا علي فتركوه .
3- تحريق عثمان رضي الله عنه للمصاحف المخالفة للمصحف الذي جمع النَّاس عليه ؛ فهذا عمل بمقتضى السياسة الشرعية .
4- تحريق علي رضي الله عنه للزنادقة ؛ فهذا من السياسة الشرعية . قال ابن القيم : " ومن ذلك [ السياسة الشرعية ] تحريق علي رضي الله عنه الزنادقة والرّافضة ، وهو يعلم سنَّة رسول الله صلى الله عليه وسلم في قتل الكافر ؛ ولكن لمَّا رأى أمراً عظيماً ، جعل عقوبته من أعظم العقوبات ؛ ليزجر النَّاس عن مثله " .
وشواهد ذلك كثيرة جدّاً . هذا مجمل ما استدلَّ به العلماء على حجيَّة العمل بالسياسة الشرعية ، وهذه بعض شواهده ، من القرآن العظيم ، ومن السنَّة النبوية ، وسنَّة الخلفاء الراشدين ؛ وغيرها من الأدلَّة والشواهد كثير ؛ وما عُرِض من تطبيقاتٍ ، كافٍ في تأكيد حجيَّة العمل بها ، وأنَّها من مستندات الفقه الشرعي ، التي يلتزمها أولوا الأمر العادلون ؛ والأمر في ذلك بيِّنٌ و لله الحمد والمنَّة .
النهج الثاني : الاستدلال بـ( أدلَّة أصول السياسة ، ومستنداتها )
النهج الثالث : الاستدلال بما ورد من النصوص في إثبات قاعدة ( رفع الحرج ) ؛ التي لها تعلق بجميع أصول السياسة الشرعية ، وسيُكتَفي بما يُنثر من أدلتها في الاستدلال لأسس السياسة الشرعية ، إذ إنَّها لا تنفك عنها .
النهج الرابع : الاستدلال بسنَّة الله عز وجل في التشريع منذ بدء الخلق ؛ من حيث مراعاتها في اختلاف الأحكام والشرائع ، واختلافَ الأزمان والأحوال ؛ فظهر أنَّها سنَّة الله عز وجل في سائر الأمم ؛ وأنَّ شرع من قبلنا شرع لنا ، ما لم يرد شرعنا بخلافه ؛ فيكون في ذلك تنبيه إلى اختلاف الأحكام عند اختلاف الأحوال في زماننا ؛ وأنَّها من قواعد الشرع ، وأصول القواعد ؛ وليست بدعاً عما جاء به الشرع .

ليست هناك تعليقات:

إرسال تعليق