إن صاحب الفلسفة الأولى والمنطق والطبيعة والأخلاق
والخطابة والشعر ، أرهق نفسه في نقد المثل الأفلاطونية ليجعل من ذاته
أفلاطوناُ جديداُ ، أفلاطوناُ بمعايير جديدة بعيدة عن الوعي الأسطوري الذي
كان سائداُ بقوة في تلك الفترة ، وبعيدة عن المثل التي وكأنها تصادر الواقع
والطبيعة وعلم الأحياء والوجود والعلم ، فأرسطو ( 384 – 322 ق . م ) توخى ،
منذ البداية ، أن تكون الفلسفة قريبة من محتوى العقل ومن جوهر الطبيعة ومن
مضمون المنطق . أرسطو ، الذي أبتغى أن يجعل من الطبيعة موضوعاُ للعلم ،
أخفق في المقدمة الجوهرية لتأصيل هذه الفكرة ، ولم يدرك أن الطبيعة والعلم
مقولتان خاويتان دون المفهوم الفعلي والفاعل للمادة ، مقولتان لاتستقيمان
من تلقاء ذواتهما إن لم تخضعا حقيقة لقانون المادة . المادة كموضوع
ذاتي منفعل وفاعل ، وقانون المادة كصيرورة وكسيرورة ، لم تكونا في الفلسفة
الأغريقية كمفهومين لهما خواص تفرض ( بضم التاء ) على الوجود الطبيعي
ولاحتى على التحليل المنطقي ولاحتى على التحليل النفسي ، لذلك عندما بحث
الفلاسفة الأوائل عن المبادىء الأولى في طبيعة الأشياء ، لم يقصدوا حقيقة
التفاعل في طبيعة المادة ، أنما قصدوا الشكل الظاهري في أنتقال الأشياء أو
الموجودات فيما بينها ، وكأن الأنتقال هو التدرج في الأعداد من رقم واحد
إلى أثنين وإلى ثلاثة . لقد بات معروفاُ إن الأساطير قد ذكرت إن المحيط
هو أصل الوجود ( تذكروا علاقة المحيط بعرش الرب في الديانات السماوية
الجليلة ) ، ومن هذه الفكرة أستخلص طاليس إن المبدأ الأول في طبيعة الأشياء
هو الماء ( أن كل الأشياء تتولد من الرطوبة ، وأن بذور الأشياء ينبغي أن
تكون رطبة بطبيعتها ) . وخلافاُ لطاليس ، أعتقد هراقليطس إن المبدأ
الأول هو النار ( إن النار هي سبب الحركة في الأشياء ) ، وأعتقد أنكسيمينس
إنه الهواء ( إن الهواء يتخلل في عمق كل الأشياء ) ، وأما إمبادوقليدس فقد
أضاف إلى هذه المبادىء الثلاثة مبدءاُ رابعاُ ألا وهو التراب ، لكن لاأحد
من هؤلاء قصد حقيقة المادة وقانونها . وأنظروا إلى مايقوله أرسطو في
هذا الصدد ، وفي معرضه تساؤله عن حقيقة الحركة والتغير في طبيعة الأشياء (
لاريب إن المادة ، التي هي حامل الأعراض ، ليست هي علة التغيرات التي تحدث
فيها ، إذ لايمكن أن يكون البرونز هو علة وجود التمثال ، أو أن يكون الخشب
هو علة وجود المقعد ، أو أن يكون الحديد هو علة وجود السرير ) . هذه
الرؤيا الجافة والعاقرة في تصور محتوى المادة فرضت نفسها ، من حيث لايدري
أرسطو ، على مجمل تصوراته وأرهقته ، لإن المادة وكذلك الطبيعة لم تكونا ،
حسب منطق منظومته ، إلا عوامل سلبية في الوجود ، والتي عليهما مارست
العوامل الإيجابية أسبابها ، في الفكر ، في العقل ، في العلة الغائية ، في
العلة الصورية . وهذا ما يذكرني بمفهوم المادة لدى الكاتب الكوردي
المعروف عباس محمود العقاد ، في مؤلفه الشيوعية والأنسانية ، حينما يقول
أليست هذه الطاولة مادة ، أليس هذا الجدار مادة ، أليس هذه النافذة مادة ،
ثم يضرب بيديه على الطاولة التي أمامه ويصرخ هل يمكن لهذا الخشب ( المادة )
أن يخلق الوعي ، هل يمكن لهذه المادة أن تعقل محتوى الإدراك . هذه هي
المصيبة لدى هؤلاء السادة ، فإنهم لايفقهون من المادة سوى الشكل الخارجي
للأشياء ولايضفون عليها إلا صفات الجمود والخمود والخمول ، وأرسطو حينما
تحدث عن العلل ، او بالأحرى حينما تحدث عن التغيير في مؤلفه الطبيعيات ،
وبغية أن نعي التغيير في الطبيعة ، أكد على ضرورة التفريق مابين مبدأ
الصورة والعلة المادية ، لإن هذه الأخيرة لاتكفي بحد ذاتها ولامناص من صورة
تحتضن هذا الشيء ، صورة الكرسي ، صورة التمثال ، صورة القلم . ويكمل
أرسطو تصوره هذا بإضافة علتين أخريتين إلى السابقتين هما ، العلة الفاعلة
والعلة الغائية ، وكإن التغيير لايحصل في المادة نفسها !! فهل التغيير يحصل
في مستوى العلة الصورية ، أم في مستوى العلة الفاعلة ، أم في مستوى العلة
الغائية !! وحتى لو أفترضنا إن العلل الثلاثة الأخيرة ضرورية للتأثير
على العلة المادية أو المادة ، فإن هذا لايلغي ولايبطل إن التغيير يحصل في
عمق المادة وفي ثناياها ، لإن التغيير الفعلي هو ذلك التغيير الداخلي أما
ما يطلق عليه التغيير من الخارج فهو لايرتقي إلى مستوى مبدأ التغيير ،
ونضرب أمثلة من داخل تصور أرسطو نفسه ، فقص البرونز أو قطع الخشب لصنع
الكرسي أو التمثال ليس لهما أي دور في تغيير محتوى الخشب أو البرونز ،
لإنهما يغيرانهما من الزاوية الشكلية ، ومن زاوية العرض والطول أي الأبعاد ،
أما ، وبالعكس ، فإن دخول عدة قطرات من الماء إلى داخل الخشب فهي قادرة
على تغيير خواصه أو على الأقل التأثير في خواصه الجوهرية . وهذه النقطة
الأخيرة هي غريبة على أرسطو لإنه ، كما رأينا ، يعتبر الطبيعة نفسها
تحولات شكلية في المادة ( مسألة القص أو القطع أو التركيب ) وفقاُ لقياس
العلة الصورية ، ولايرى فيها سوى مبدأ الأنفعال السلبي المطلق ، لذلك
استغرب من قول لينين في المجلد الثامن والثلاثين ( ص 282 – 287 ) حينما
يزعم ( إن أرسطو يقترب كثيراُ من المادية ) ويستطرد ( إن نظرية أرسطو
المثالية هي أكثر موضوعية من مثالية أفلاطون وأبعد منها مدى وأكثر منها
يقيناُ ، ومن ثم هي في الفلسفة الطبيعية أكثر مادية على الغالب ) . إن
هذا القول هو أحتقار لمفهوم المادة ، وفي الفلسفة لايوجد شيء أسمه ( هذا
أحمق وهذا أكثر حماقة أو هذا أقل حماقة ) ، فأرسطو لايحتسب المادة إلا (
خرقة تافة ) تأخذ ذواتأ مختلفة بفضل العلة الصورية التي هي أصل كل الحركة . إن هذا التصور الباهت للمادة لدى أرسطو أفضى به إلى مغالطات نذكر منها التالية : أولاً
: حينما يتحدث أرسطو في منطقه الصوري الشكلي عن مبدأ الهوية ( هو هو )
الذي أستنتج منه مبدأ عدم التناقض ومبدأ الثالث المرفوع ، والذي يدل على
الثبات المطلق وعلى الوجود المطلق ، فإنه لايكترث بالمادة ولا بالتغيير
الحاصل فيها ، أنه يلوذ بفكرة العلة الصورية ، فتلك الشجرة هي هي منذ نموها
الأول إلى نهاية بقائها ، والشيء هو هو لايتبدل ولايتغير ، وأرسطو هو هو
منذ ولادته إلى يوم وفاته ، والعلة الصورية هي هي . فالثبات في مبدأ
الهوية هو وجودي وليس معرفي ، ويختزل معنى الفكرة وقوة التجريدي ، وينفر من
معنى الواقع والأنفعال ، وكأننا إزاء حالة من ملايين العلل الصورية التي
هي صاحبة الشأن في تحديد ما هو موجود وماهو غير موجود . إن المعضلة
الأساسية في عدم أدراك فلسفة أرسطو كما ينبغي هي إن الفلاسفة وقعوا في
أحبولة ما هو ظاهري فيها وأخذوا تعابيره كما هي ، كما لو أنها مفسرة بحد
ذاتها ، ولو أنهم أدركوا العلاقة ما بين ذهنية أرسطو ومبدأ الهوية ، لتسنى
لهم أن يدركوا كم إن العلة المادية أو المادة أو الشيء المادي أو الأجسام
أستخدام لفظي مثلها مثلما هي لدى أفلاطون ، وكم إن العلة الصورية تصادر
الوجود لذاتها تماماً مثلما فعلت المثل الأفلاطونية . لذلك قلنا في
البداية ، إن أرسطو حينما أنتقد المثل الأفلاطونية كان يبحث عن بديل منطقي
واقعي يقترب من أذهان العامة أكثر ، ومن هنا تحديداُ لم يعر المادة أو
التغيرات الحاصلة فيها أو خواصها الطبيعية الجوهرية أي أهتمام فلسفي فعلي .
ثانياُ : لقد وضعنا مبدأ الهوية في المقدمة كي نعي بقوة مفهوم أرسطو
حول مايسميه بالتغيير ( في المادة ) وهو في الحقيقة أنتقال وليس تغييراُ
بالمعنى الجدلي لهذا الأخير ، ويؤكد أرسطو أن لدينا أربعة حالات للتغيير ،
في الدرجة الأولى التولد وهو الأنتقال من الوجود إلى الوجود ، من الكائن
إلى كائن آخر ، وفي الدرجة الثانية الفساد وهو الأنتقال من الوجود إلى
العدم ، وفي الدرجة الثالثة الكون وهو الأنتقال من العدم إلى الوجود ، وفي
الدرجة الرابعة الأنتقال من العدم إلى العدم . وبأمعان بسيط نستنتج أن
أرسطو ، وحتى حينما يفلسف التغيير أو الأنتقال أو المادة ، لايقصد التغيير
الداخلي وكأن المادة ذريعة لديمومة العلل الصورية تمامأ مثلما فعل أفلاطون ،
لذلك هو يرفض الأنتقال في الدرجة الرابعة ، أي الأنتقال من العدم إلى
العدم ، لإن محل العلة الصورية مفقودة ، ويقول عنه إن هذا يحتوى على تناقض
منطقي ، وفي الحقيقة أرسطو لايأبه بهذا التناقض الظاهري لكنه مضطر إلى رفضه
لإنه يقوض أساس العلة الصورية . بينما يقبل أرسطو الأنتقال في الدرجات
الثلاثة الأولى رغم وجود تناقض من نوع آخر ، فالأنتقال من الوجود إلى
الوجود يتضمن الوجود الأول وعلته الصورية والوجود الثاني وعلنه الصورية ،
ولكي يصدق الأنتقال لامناص من أن تحل العلة الصورية الثانية محل العلة
الصورية الأولى ، ولكي يصدق الحلول ينبغي أن نلغي محتوى الأنتقال . وفي
الحقيقة إن الأنتقال في الدرجة الثانية ، أي ألأنتقال من الوجود إلى العدم ،
هو الذي يوضح المعنى الأصلي للعلة الصورية ، لإن عدم التطابق مابين هذه
الأخيرة ومابين محلها يلغي سبب وجودها ، وبالتالي لاتستطيع أن تكون ، وتصبح
غير متطابقة مع مفهوم مبدأ الهوية ( هو هو ) ، وهذا هو سر العلاقة مابين
مبدأ الهوية والعلة الصورية ، وهذا هو السر في عدم وجود المادة في ذهن
أرسطو إلا أعتباطاُ . وربما قد نتساهل مع كل ماطرحناه ، لكن أن يؤكد
أرسطو على وجود الأنتقال في الدرجة الثالثة ، الكون ، الأنتقال من العدم
إلى الوجود ، فهذا تصور مرهق بالنسبة لنا ، لسببين أساسيين ، الأول أنه هو
نفسه يرفض الأنتقال من العدم إلى العدم فكيف تتحرك العلة الصورية في العدم
الأول للأنتقال إلى الوجود ، والثاني لو صدق الأنتقال من العدم إلى الوجود
لصدق حذف العلة المادية ، لإن العلة الصورية ، هنا ، قادرة على خلق ، واقول
جيداُ خلق ، المادة المناسبة لها من ذاتها ، أي من ذات العلة الصورية ،
وهذا يقوض مجمل ما تصوره أرسطو . ثالثاُ : بقي أن نذكر حالة خاصة من
أحوال المادة ، والتي بسببها قد ينبري أحدهم للدفاع عن أرسطو وينتقدنا مع
وجه حق بصورة جزئية ، وهذه الحالة تحوم حول قول أرسطو ( إن الصورة هي غاية
الموجودات الطبيعية ، وإن وجود المادة قبل أن تتلقى الصورة هووجود بالقوة )
. لنضرب أمثلة على مفهوم ( الفعل والقوة ) لدى أرسطو ، إن البذرة التي
هي مابين يديك والتي سوف تزرعها هي موجودة بالفعل ، لكنها سوف تتحول إلى
شجرة في المستقبل وسوف تدر عليك بالثمار ، لذلك يمكن القول إن هذه الشجرة
وتلك الثمار هي موجودة بالقوة في تلك البذرة الآن . وكذلك يمكن ضرب مثال
المولود الجديد ( الوجود بالفعل ) والشخص المستقبلي ، رجل أم أمرأة (
الوجود بالقوة ) . وهكذا توجد ضرورة بنيوية داخلية في تطور البذرة إلى
الشجرة وتحول المولود إلى رجل ، وهذه الضرورة تنبع من خاصية البذرة
والمولود أولاُ ، وتحقق ذاتها درجة درجة إذا ماتحققت ظروف هذا التحول
ثانياُ ، وفي كل درجة تفقد ذاتها السابقة وتملك ذاتية جديدة ثالثاُ . فإذا
ما أفترضنا صدق مقولة أرسطو ( إن وجود المادة فبل أن تتلقى الصورة هو وجود
بالقوة ) ، أي إن الصورة هي البذرة وإن المادة هي الشجرة ، فينبغي أن
نستنبط منها بالضرورة إن المادة هي مستقبل الصورة وإن هذه الأخيرة تتطور
درجة درجة نحو المادة . وهذا يعني بالضبط ، وإذا ما أختزلنا المسألة
بثلاثة مراحل للتبسيط ، إن في المرحلة الأولى لدينا فقط الصورة دون المادة ،
وفي المرحلة الثانية كيف تنتج الصورة المادة لاأدري ولايدري أرسطو ، وفي
المرحلة الثالثة لدينا فقط المادة دون الصورة . وهذا مايجعل تصورات أرسطو
كلها في مهب الريح . وإلى اللقاء في الحلقة الثامنة والثلاثين .
ليست هناك تعليقات:
إرسال تعليق